الملكة الأمازيغية ديهيا .."الكاهنة" التي جمعت الجمال والدهاء
هي ملكة جَمعت بين الجمال الأمازيغي والدهاء، أمران جعلاها تتبوأ مكانة عالية في تاريخ منطقة ومجتمع شمال إفريقيا، وكذا في البنية الذهنية العربية والأمازيغية التي دونت سيرتها.
الملكة الأمازيغية ديهيا والمشهورة بلقب الكاهنة والتي قال عنها المؤرخ ابن خلدون "ديهيا فارسة الأمازيغ التي لم يأت بمثلها زمان كانت تركب حصانا وتسعى بين القوم من الأوراس إلى طرابلس تحمل السلاح لتدافع عن أرض أجدادها" كتاب العبر الجزء السابع ص 11. وُلدت عام 680م وخَلَفت الملك "كُسَيلة" في حكم الأمازيغ وحكمت شمال أفريقيا مُشَكِّلة مملكتها اليوم جزءً من المغرب الكبير قديما، متخذة من مدينة خنشلة في جبال الأوراس العالية عاصمة لها. حيث قال البكري "... وفي هذا الجبل الأوراس كان مستقر الكاهنة..." . كما حدد ابن الأثير انتماءها إلى البربر قائلا " وكانت بربرية وهي بجبل أوراس".
الملكة ديهيا..الكاهنة
أكد عدد من المؤرخين أن سبب تسميتها بالكاهنة أو الساحرة يعود إلى كونها "تتكهن بمجموعة من الأمور بوحي من شياطينها"، حيث تَبنى ابن خلدون الفكرة التي أشاعها العرب عن الملكة ديهيا، واعتقد هو أيضاً أن سيادتها لقومها مستمدة من علمها بالسحر والغيبيات.
ولعل هذه الألقاب والأسماء المكنات بها جاءت لتغطي الاسم الحقيقي للملكة، أو ربما هي محاولة لترجمة اسمها الأصلي الأمازيغي إلى العربية، وقد يكون اسم "داهية" تحريفا للاسم الأمازيغي ديهية أو تيهية الذي يعني جميلة بالأمازيغية.
أما عن ديانتها والتي ذهب البعض إلى القول بأن ملكة الأمازيغ كانت يهودية أو وثنية، فيؤكد الدكتور مططفى أوعشي الأستاذ بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، أن "افتراض يهوديتها لا يبدو مقبولا، لأنها كانت عند خُروجها للمعارك مسبوقة بتمثال خشبي محمول على الجمل، الذي قد يرمز لأحد الأرباب الأمازيغية، إما "تانيت" أو "أمون" أو "سيبيل" أو "أمور"، مما يعني أنها وثنية. مضيفا أن حتى لقب الكاهنة الذي أطلق عليها، والذي يعني رجل الدين أو الساحرة أو المتنبئة، فلكونها مرتبطة بديانة وثنية، لأنها كانت كاهنة الأرباب الأمازيغية التي تخدمها".
ديهيا..الملكة الأكثر شجاعة وبأسا
أما المؤرخون العرب فقد اعتادوا تقديم خطابات عن تلك المرأة التي خططت لإجلاء العرب وأعدت العدة والعتاد لذلك. كما ورد أن جميع الأمازيغ كانوا يخافونها ويُصغون إلى أوامرها بسبب جُرأتها وشجاعَته، فقد جاء عن ابن الأثير "... وقدم حسان بن النعمان مدينة القيروان فلما استَراح قال لهم دُلُّوني على أعظم ملك بقي بافريقية ومن إذا قُتل خاف البربر والنصارى وهابَت المسلمين فلا تقدم عليهم، فقالوا له ليس بافريقية أعظم من امرأة بجبال أوراس يقال لها الكاهنة".
في ذات السياق تقول الدكتورة نُضار الأندلسي ضمن كتابها "شخصيات نسائية من تاريخ شمال إفريقيا القديم": بعدما علمت الكاهنة ما يحمله حسان بن النعمان في جُعبته، ارتأت أن تلتجئ إلى سياسة صارمة لدفع العرب الفاتحين للتَّراجع عن فتح أراضي شمال إفريقيا، انطلق مخطط الكاهنة من نفس الضغط الذي مارسه الفاتحون لكن في شقه الإقتصادي، حيث اعتقدت أن العرب ما يكادون ينزلون البلاد حتى يتوجهون إلى المدائن والنواحي العامرة، ويبْدُلون وُسْعَهم في الاستيلاء عليها، فإذا لم يتم ذلك انقَضُّوا على الخيرات والنفائس والأموال فنهبوها ولم يخلفوا وراءهم شيئا فأرادت أن تقطع رجاءهم في البلاد بل تقضي على كل معالم العمران فيها.
الكاهنة وسياسة الأراضي المحروقة
الوزير السّراج في القرن الثاني عشر الهجري يقدم عزم الكاهنة على تنفيذ مخططها حين قالت : "إن العرب لا يُريدون من بلادنا إلا الذهب والفضة ونحن يكفينا فيها المزارع والمراعي فلا نرى إلا خراب إفريقيا كلها حتى ييأس منها العرب فلا يكون لهم رجوع إليها إلى آخر الدهر".
وعلى الرغم مما وصلها عن المسلمين بأنهم أصحاب رسالة، فإنها ضَلَّت تتوجس خيفة منهم وتراهم كباقي الغزاة، فقاومت وضحت بأبنائها جميعا، ولما غُلبت على أمرها طالبت قومها بإحراق كل البساتين، ظنًّا منها بأن الفاتحين جاءوا طامعين في خيرات البلاد.
أما أحمد الناصري فقد وصف الخراب الذي حل بالبلاد بقوله : " وكانت المدن والضِّياع من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا من قرى متَّصلة فخرَّبت الكاهنة ديار المغرب وعضدت أشجاره ومحت جماله؛ حيث " انعكس هذا الخراب على البنية السكانية حين رحل عدد كبير من الساكنة منهم النصارى والأفارقة إلى الأندلس وباقي الجزر البحرية" . ويقول إبن عذارى (695-712هـ) في هذا الشأن " وخرج يومئذ من النصارى والأفارقة خلق كثير مُستغيثين مما نزل بهم من الكاهنة فتفرقوا على الأندلس وسائر الجزر البحرية".
اختلاف حول سياسة الكاهنة
ظلت هذه السياسة المنتهجة من طرف الداهية ديهيا موضع شك من لدن الكتاب الغربيين، حيث قال المؤرخ ليفي روفنسال (1894- 1956)في كتابه "إنه من الواضح أن نسب هذا العمل الذي يُخالف طباع البربر إلى الكاهنة لابد أن يكون محل شك..."؛ في حين نجد جل النصوص العربية تفسر الغاية من هذا العمل التخريبي هو "الحكمة العسكرية للكاهنة لصد العرب".
مزايا امرأة مُضحِية
في ذات النطاق تقول الباحثة في تراث المرأة القديم نضار الأندلسي " إن استراتيجية الكاهنة في التَّخطيط للحروب دحضت كثيرا من المزاعم، التي كانت ولا تزال تنعت ساكنة شمال إفريقيا بالسلبية تُجاه ما عرفته المنطقة من أحداث سياسية، وأنها استسلمت لقدرها دون مقاومة أو مواجهة".
وتضيف الأندلسي مقدمة شهادة في حق هذه الملكة "إذا ما كان في وُسعنا أن نصف مسار الكاهنة الحَربي في صراعها مع الفاتحين، فإننا نقول إنها ملكة وفي الوقت نفسه تخطط للمعارك وتنفذ استراتيجيتها وتتولى القيادة العسكرية، ويبدو أنها دافعت حتى النفس الأخير عن وطنها بالحديد والنار، وفرضت حُكمها بالقوة جعلتها تتمتع بهيبة، وانتهى بها الحال إلى إحراق كل الموارد الطبيعية التي كانت مطمع العرب، لكن قَتلها شكَّل هزيمة منكرة لأتباعها، فقُتل من قُتل وهرب من هرب".
ليقول عنها المؤرخ الثعالبي "وبعد معركة صارمة ذهبت هذه المرأة النادرة ضحية الدفاع عن حمى البلاد"، حيث اختلف المؤلفون في تحديد سنة مقتلها وتتضارب آراء المؤرخين العرب حول تاريخ مصرع الكاهنة، فيقول ابن الأثير أنها قتلت سنة 74 أو 79 هجرية أما ابن خلدون فأرخ لمقتلها سنة 74 هجرية ويقول المؤرخ المغربي الناصري أنها ملكت على البربر 35 سنة وعاشت 127 سنة دون تحديد سنة مقتلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق